مصر… أمّ الدنيا التي تجمع المتناقضات في حضن واحد .. !!
إبراهيم ابوذكري
في اللحظة التي تتفتح فيها زهرة انتصار جديد فوق أرض مصر، تخرج في المقابل أشواكٌ صغيرة تحاول أن تخدش وجهها، أصواتٌ لا تمثل إلا نفسها، تتعالى كلما ارتفع اسم بلادي، كأنها لا تحتمل أن ترى مصر واقفة، قوية، متقدمة، تنفض غبار السنين وتشقّ طريقها بثبات.
وما يؤلمني ليس ما يقوله هؤلاء، بل أن بعضهم يزعم انتماءه للعروبة، مع أن قلوب الشعوب العربية الحقيقية لا تعرف إلا المحبة لنا، ولا نعرف نحن لها إلا التقدير والاعتزاز. أمّا هذه الأصوات فمجرد ظلّ عابر… ضجيج يختفي عند أول نسمة تهبّ من نيلنا.
صوت نشاز لا يمثل أحدًا سوى نفسه، صوت يختار التطاول بدل الاحترام، والاتهام بدل الفهم، والتهوين بدل الاعتراف بجهد أمة تعيد بناء نفسها.
ومع أن مصدر هذه الأصوات من بعض من يطلقون على أنفسهم «عربًا»، فإنني هنا لا أتحدث عن الشعوب الشقيقة التي لها في قلوبنا كل المحبة، ولا عن الدول التي نُجلّها وتربطنا بها روابط الدم والمصير، فهي ستظل أشقاء لنا إلى يوم الدين. إنما أتحدث عن فئة صغيرة اختارت أن تنظر إلى مصر بعين الحسد لا بعين الأخوة، وبعين الضيق لا بعين الفخر.
ولأن هذه الأصوات ارتفعت تزامنًا مع انتصارات مصر وتقدمها، كان لا بد أن أكتب عن بلدي التي تعرف من تكون، عن مصر التي لا تهتز أمام كلام، ولا تتعب من الطريق، ولا تتراجع مهما اشتدت الرياح أكتب دفاعًا لا عن حدود جغرافية، بل عن قيمة، عن تاريخ، عن حضارة…
هي *أمّ الدنيا* رغم انف الحاقدون الجهلة الذين يسعون لتشويه صورة مصر لا يدركون أن تاريخها العريق وثقافتها الرفيعة سترتسم في الأذهان رغم أي محاولات للنيل من مكانتها."
مصر ليست مجرد مساحة على الخريطة، ولا مجرد دولةٍ تُذكر في كتب التاريخ، بل حالةٌ إنسانية كاملة، فسيفساء من التناقضات التي تنسجم بقدرة عجيبة، كأنها كائن حيّ يتنفس منذ آلاف السنين ولا يزال يحتفظ بنفس روحه الأولى.
هي الأرض التي يمكن أن تجد فيها كل شيء: القداسة والمرح، العبادة والرقص، البساطة والترف، الجدية والانطلاق، التاريخ والمستقبل.
من شارع الهرم الذي يفيض بأضوائه وإيقاعه وحكاياته، إلى الأزهر الشريف الذي يصدّر العلم والفقه إلى العالم منذ أكثر من ألف عام، تتجلى مصر في صورتها الأكثر صدقًا: دولة تجمع المتناقضات دون صدام، وتحوّل اختلافاتها إلى ثراء.
هي دولة التلاوين التي تتعايش فيها الثقافات والطبقات واللهجات، ودولة الترفيه التي تُضحك العالم وتبكيه في فيلم واحد ومسلسل واحد ونكتة واحدة.
هي مزيجٌ نادر من الثقافة العميقة والتفاهة اللذيذة، من الفكر الفلسفي والضحكة «ابنْ الناس»، من المسرح الجاد إلى الاسكتش الخفيف الذي يُضحك الملايين.
بين الفول والكافيار… وبين الحارة والساحل
في مصر يمكنك أن تتناول الفول والطعمية والكشري والفسيخ في الصباح، ثم تجد في المساء مطاعم تنافس أشهر مطاعم ماكسيم في فرنسا.
بلدٌ يجيد الطبخ الشعبي الذي يشبع القلب قبل البطن، ويجيد أيضًا تقديم أطباق تُسعد أذواق النخبة.
ومن الحارة الشعبية التي تشبه أمًّا تحتضن أبناءها، وتعلّمهم المروءة والجدعنة، إلى أغلى الأماكن في الساحل الشمالي التي تدهشك برفاهيتها وأناقتها… تمتد مصر كخط طول اجتماعي يمكن أن يمرّ فيه الإنسان من مستوى إلى آخر دون أن يفقد هويته.
من عمق التاريخ إلى اختراعات الغد
مصر التي تحتفظ بتاريخٍ يمتدّ إلى ما قبل الكتابة، وتعلّم العالم معنى الحضارة، هي نفسها التي تُنتج اليوم علماء ومخترعين وشركات تقنية وشبابًا يحاولون بناء الغد. هي بلدٌ يضع قدمًا في عمق الزمن وقدمًا أخرى في مصانع المستقبل.
امرأة في ثوب بلد… وقوة في هيئة أنثى
والمرأة المصرية، كما وصفتها، ليست نموذجًا واحدًا. فهي القوية التي «بميت راجل»، وهي أيضًا الأنثى الرقيقة التي تدلّل زوجها وتضعه فوق رأسها، وهي الأم التي تقيم الدنيا إذا مسّ أحد أبناءها بأذى. ربما لأن مصر نفسها «أنثى» في نظر أبنائها… أمٌ صلبة ولينة في آنٍ واحد.
والسؤال الذي يطرح كل يوم، لماذا سُمّيت مصر “أم الدنيا”؟
اسم «أم الدنيا» ليس مجرد لقب عاطفي قاله المصريون لأنفسهم، بل له جذور تاريخية وثقافية متعددة:
أولا: لأنها أقدم دولة في التاريخ وتُعد أول دولة مركزية وحدة عرفتها البشرية منذ أكثر من 5000 عام. قامت فيها أول حكومة، وأول نظم قانونية، وأول مؤسسات علمية ودينية… وكأنها “أمّ” للحضارات التي جاءت بعدها.
ثانيا: لأنها احتضنت حضارات وشعوبًا متعددة، مرّت عليها حضارة الفراعنة، ثم اليونانيون، ثم الرومان، ثم العرب، ثم المماليك، ثم العثمانيون، ثم الحداثة الأوروبية… وكلهم تركوا بصمتهم ، لم تطرد أحدًا؛ بل احتوت الجميع، فصارت “أمًا” تستقبل أبناءها من كل جهة.
ثالثا : لأنها كانت مصدرًا للعلم والمعرفة بقيادة الأزهر الشريف، وبيت الحكمة، والمدارس الفقهية، والطب القديم، والعمارة… كل هذا جعلها منارة للمنطقة والعالم.
رابعا : . لأنها قادت المنطقة في الثقافة والفن والسياسة فمن القاهرة خرجت السينما العربية، والموسيقى العربية الحديثة، والمسرح، والدراما، والصحافة، والجامعات الكبرى ، لذلك كان من الطبيعي أن يُقال: «مصر أمّ الفن، أمّ العلم، أمّ العرب… أمّ الدنيا.»
خامسا :. تفسير لغوي-شعبي قديم لأن هناك من ينسب العبارة للفاتح عمرو بن العاص حين قال: “مصر تُفتح وتَفتح، وهي أمُّ الدنيا، وتصلح أن تكون مقرًّا للخلافة.” وإن كان النص غير مؤكد تاريخياً، لكنه أصبح جزءًا من الوجدان الشعبي.
• مصر ليست مجرد دولة؛ إنها عالمٌ قائم بذاته. بلدٌ يمكنك أن تسمعه قبل أن تراه، وتشمه قبل أن تصل إليه، وتشعر به حتى وإن كنت بعيدًا عنه.
• مصر هي الأم التي تحتوي كل أبنائها، بكل سلوكياتهم، بكل اختلافاتهم، بكل أفراحهم وعيوبهم وأحلامهم ، ولهذا… ربّما لم تجد البشرية لقبًا أنسب لها من: «أمّ الدنيا»
وها أنا أكتب اليوم عن مصر ليس لأنها بحاجة إلى من يدافع عنها، فهي أكبر من أي تطاول، وأرسخ من أي إساءة، وإنما لأن من يحب الوطن لا يقف متفرجًا حين تمتد إليه الألسن. أكتب لأن موجة التطاول التي خرجت من بعض الأفراد لا يمكن أن تُنسب إلى شعوب عربية كريمة نكنّ لها كل التقدير، ولا إلى دول لها في قلب كل مصري مكانة الأخ والصديق والشريك.
لكن من حقنا أن نقول إن مصر، التي تواجه التحديات وتحقق النجاحات، تستحق أن تُنصف، وأن يُعترف بجهدها، لا أن يُساء إليها من قلة عابرة لا تمثل أحدًا.
إن مصر، التي علمت الدنيا معنى الحضارة، واحتضنت الأشقاء يوم ضاقت بهم الأوطان، ووقفت سندًا لأمتها في أوقات الشدة، لا تنتظر شكرًا، لكنها أيضًا لا تقف صامتة أمام الباطل.
ومهما علا الضجيج، ستبقى مصر ثابتة، صلبة، مرفوعة الرأس… تمضي في طريقها وتترك الضوضاء خلفها.
ولعلّ أجمل ما في مصر أنها تكبر بالإنجاز لا بالكلام، وترتفع بالعمل لا بالشعارات، وحين تنتصر—وهي تنتصر اليوم في أكثر من ميدان—يخرج الحاسدون قبل المهنئين، فلا نتعجب. فالشجرة المثمرة وحدها هي التي تُرمى بالحجارة.
أكتب اليوم لأن حب الوطن ليس شعارًا، بل فعلًا، ولأن مصر تستحق أن تُروى حكايتها كما هي: أمّ الدنيا… وستظل كذلك، شاء من شاء وأبى من أبى.